الدرس الثاني:
كتــــاب الطهــــارة
باب: في أحكام الطهارة والمياه
إن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الفارقةُ بين المسلم والكافر، وهي عمود الإسلام، وأول ما يُحاسب عنه العبدُ، فإن صحت وقُبلت، قُبل سائرُ عمله، وإن رُدت، رُد سائرُ عمله.
وقد ذُكرت الصلاة في مواطن كثيرةٍ من القرآن الكريم على صفات متنوعة: فتارة يأمرُ الله بإقامتها، وتارة يبين مزيتها، وتارة يبين ثوابها، وتارة يقرنها مع الصبر ويأمر بالاستعانة بهما على الشدائد.
ومن ثَم كانت قرة عين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا، فهي حليةً النبيين، وشعار الصالحين، وهي صلةٌ بين العبد وبين رب العالمين، وهي تنهي عن الفحشاء والمُنكر.
ولما كانت هذه الصلاةُ لا تصح إلا بطهارة المصلي من الحدث والنجس حسب القدرة على ذلك، وكانت مادة التطهر هي: الماءً أو ما يقوم مقامه من التيمم عند عدم الماء، صار الفقهاء رحمهم الله يبدأون بكتب الطهارة، لأنها لما قُدمت الصلاةُ بعد الشهادتين على غيرها من بقية أركان الإسلام، ناسب تقديم مقدماتها، ومنها الطهارة، فهي مفتاح الصلاة، كما في الحديث: (( مفتاح الصلاة الطهارة )) (1)، وذلك لأن الحدث يمنع الصلاة فهو كالقفل يوضع على المُحدثِ، فإذا توضأ، انحل القفل.
فالطهارة أوكد شروط الصلاة، والشرط لا بد أن يُقدم على المشروط.
ومعنى الطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسية والمعنوي، ومعناها شرعا: ارتفاع الحدث وزوال النجس.
وارتفاع الحدث يحصل باستعمال الماء مع النية: في جميع البدن إن كان حدثاً أكبر، أو في الأعضاء الأربعة إن كان حدثاً أصغر، أو استعمال ما ينوب عن الماء عند عدمه أو العجز عن استعماله ( وهو التراب ) على صفةٍ مخصوصة، وسيأتي إن شاء الله بيانٌ لصفة التطهر من الحدثين.
وغرضنا الآن: بيان صفة الماء الذي يحصلُ به التطهر، والماء الذي لا يحصلُ به ذلك:
قال الله تعالى: (( .. وأنزلنا من السمآءِ مآءً طهوراً )) ، وقال تعالى: ((.. وينزلُ عليكم من السمآءِ مآءً ليُطهركم به ... ))
والطهور: هو الطاهر في ذاته المطهر لغيره، وهو: الباقي على خلقته ( أي : صفته التي خُلق عليها)، سواءً كان نازلاً من السماء كالمطر وذوب الثلوج والبَرَد، أو جارياً في الأرض كماء الأنهار والعيون والآبار والبحار، او كان مُقطراً.
فهذا هو الذي يصحُ التطهر به من الحدث والنجاسة، فإن تغير بنجاسة، لم يجُز التطهر به، من غير خلاف، وإن تغير بشيءٍ طاهرٍ لم يغلب عليه، فالصحيح من قولي العلماء صحة التطهر به أيضا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " أما مسألة تغير الماء اليسير أو الكثير بالطاهرات: كالإشنان، والصابون، والسدر، والخطمي، والتراب، والعجين... وغير ذلك مما قد يغير الماء، مثل الإناء إذا كان في أثر سدر أو خطمي، ووضع فيه ماءٌ، فتغير به، مع بقاء اسم الماء، فهذا فيه قولان معروفان للعلماء ".
ثم ذكرها مع بيان وجه كل قول، ورجح القول بصحة التطهر به، وقال: " هو الصواب، لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( ... وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحدٌ منكم من الغآئط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم أو أيديكم منه ... )) [المائدة:6] وقوله: (( فلم تجدوا مآء )) [المائدة:6]: نكرة في سياق النفي، فيعم كل ما هو ماء، لا فرق في ذلك بين نوع ونوع " (2) . انتهى.
فإذا عدم الماء، أو عجز عن استعماله مع وجوده، فإن الله قد جعل بدله التراب، على صفةٍ لاستعماله، بينها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته - وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله في بابه - وهذا من لطف الله بعباده، ورفع الحرج عنهم، قال تعالى: (( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من الغآئط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم أو أيديكم إن الله كان عفوا غفورا )) [النساء:43].
قال ابن هُبيرة: " وأجمعوا على أن الطهارة بالماء تجب على كل من لزمته الصلاة مع وجوده، فإن عدمه فبدله، لقوله تعالى: (( فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا )) [النساء:43]، ولقوله تعالى: (( وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به )) [الأنفال: 11]. انتهى .
وهذا مما يدل على عظمة هذا الإسلام، الذي هو دينُ الطهارة والنزاهة الحسية والمعنوية، كما يدل على ذلك عظمة هذه الصلاة، حيث لم يصح الدخول فيها بدون الطهارتين:
الطهارة المعنوية من الشرك، وذلك بالتوحيد وإخلاص العبادة لله، والطهارة الحسية من الحدث والنجاسة، وذلك يكون بالماء أو ما يقوم مقامه.
واعلم أن الماء إذا كان باقياً على خلقته، لم تخالطه مادة أخرى، فهو طهور بالإجماع.
وإن تغير أحدُ أوصافه الثلاثة - ريحه أو طعمه أو لونه - بنجاسة فهو نجسٌ بالإجماع، لا يجوز استعماله.
وإن تغير أحدُ أوصافه بمخالطة مادة طاهرة - كأوراق الأشجار أو الصابون أو الإشنان والسدر أو غير ذلك من المواد الطاهرة - ولم يغلب ذلك المخالط عليه، فلبعض العلماء في ذلك تفاصيل وخلاف، والصحيح أنه طهور، يجوز التطهر به من الحدث، والتطهر به من النجس.
فعلى هذا: يصح لنا أن نقول: إن الماء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: طهور يصح التطهر به، سواء كان باقيا على خلقته، أو خالطته مادة طاهرة لم تغلب عليه ولم تسلبه اسمه.
القسم الثاني: نجس لا يجوز استعماله، فلا يرفع الحدث، ولا يُزيل النجاسة، وهو ما تغير أحد أوصافة بالنجاسة .... والله تعالى أعلم.
ويليه بمشيئة الله باب: في أحكام الآنية وثياب الكفار
= = = = = = = = =
مواقع النشر (المفضلة)